الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
الأول منهما: هو أن تقلب مضارعته ماضوية، ونفيه إثباتًا، فيكون بمعنى الماضي المثبت، لأن لم حرف قلب تقلب المضارع من معنى الاستقبال إلى معنى المضي، وهمزة الاستفهام إنكارية فيها معنى النفي، فيتسلط النفي الكامن فيها على النفي الصريح في لم فينفيه. ونفي النفي إثبات، فيرجع المعنى إلى الماضي المثبت. وعليه فالمعنى: {أَلَمْ يَأْذَنِ لِلَّذِينَ}: أي آن للذين آمنوا.والوجه الثاني: أن الاستفهام في جميع ذلك للتقرير، وهو حمل المخاطب على أن يقر فيقول: بلى، وقوله: يأن: هو مضارع أنى يأنى إذا جاء إناه أي وقته، ومنه قول كعب بن مالك رضي الله عنه:
فقوله: أنى لك أن تناهى طائعًا، أي جاء الإناه الذي هو الوقت الذي تتناهى فيه طائعًا، أي حضر وقت تناهيك، ويقال في العربة: آن يئين كباع يبيع، وأنى يأني كرمى يرمي، وقد جمع اللغتين قول الشاعر: والمعنى على كلا القولين أنه حان للمؤمنين، وأنى لهم أن تخشع قلوبهم لذكر الله، أي جاء الحين والأوان لذلك، لكثرة ما تردد عليهم من زواجر القرآن ومواعظه.وقوله تعالى: {أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ} المصدر المنسبك من أن وصلتها في محل رفع فاعل بأن، والخشوع أصله في اللغة السكون والطمأنينية والانخفاض، ومنه قول نابغة ذبيان: فقوله: خاشع أي منخفش مطمئن، والخشوع في الشرع خشية من الله تداخل القلوب، فتظهر آثارها على الجوارح بالانخفاض والشكون، كما هو شأن الخائف.وقوله: {لِذِكْرِ الله}، الأظهر منه أن المراد خشوع قلوبهم لأجل ذكر الله، وهذا المعنى دل عليه قوله تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الانفال: 2] أي خافت عند ذكر الله، فالوجل المذكور في آية الأنفال هذه، والخشية المذكورة هنا معناهما واحد.وقال بعض العلماء: المراد بذكر الله القرآن، وعليه فقوله: {وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق} من عطف الشيء على نفسه مع اختلاف اللفظين، كقوله تعالى: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 1- 3]، كما أوضحناه مرارًا.وعلى هذا القول، فالآية كقوله تعالى: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} [الزمر: 23]، فالاقشعرار المذكور، ولين الجلود والقلوب عند سما هذا القرآن العظيم المعبرعنه بأحسن الحديث، يفسر معنى الخشوع لذكر الله، وما نزل من الحق هنا كما ذكر، وقوله تعالى: {وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} قد قدمنا في سورة البقرة في الكلام على قوله: {ثُمَّ قًسَتْ قُلُوبُكُم} [البقرة: 74] بعض أسباب قسوة قلوبهم، فذكرنا منها طول الأمد المذكور هنا في آية الحديد هذه، وغير ذلك في بعض الآيات الأخر.وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كثرة الفاسقين، من أهل الكتاب جاء موضحًا في آيات أخر كقوله تعالى: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} [آل عمران: 110] وقوله تعالى: {فَآتَيْنَا الذين آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27] إلى غير ذلك من الآيات.{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)}.ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن كل ما أصاب من المصائب في الأرض كالقحط والجدب والجوائح في الزراعة والثمار وفي الأنفس، من الأمراض والموت كله مكتوب في كتاب قبل خلق الناس، قوبل وجود المصائب، فقوله: {مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ}، الضمير فيه عائد على اخليقة المفهومة في ضمن قوله: {وفي أَنفُسِكُمْ} [الذاريات: 21] أو إلى المصيبة، واختار بعضهم رجوعه لذلك كله.وقوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} أي سهل هين لإحاطة علمه وكمال قدرته.وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أنه لا يصيب الناس شيء من المصائب إلا وهو مكتوب عند الله قبل ذلك، أوضحه الله تعالى في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} [التوبة: 51] وقوله تعالى: {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [التغابن: 11] وقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال والأنفس والثمرات وَبَشِّرِ الصابرين} [البقرة: 155]، لأن قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع} قبل وقوع ذلك دليل على أن هذه المصائب معلومة له جل وعلا قبل وقوعها، ولذا أخبرهم تعالى بأنها ستقع، ليكونوا مستعدين لها وقت نزولها بهم، لأن ذلك يعينهم على الصبر عليها، ونقص الأموار والثمرات مما أصاب من مصيبة، ونقص الأنفس في قوله: {والأنفس} مما أصاب من مصيبة في النفس، وقوله في آية الحديد هذه {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ} [الحديد: 23] أي بينا لكم أن الأشيءا مقدرة مكتوبة قبل وجود الخلق، وأن ما كتب واقع لا محالة لأجل ألا تحزنون على شيء فاتكم، لأن فواته لكم مقدر، وما لا طمع فيه قل الأسى عليه، ولا تفرحوا بما ىتاكم، لأنكم إذا علمتم أن ما كتب لكم من الرزق والخير لابد ان يأتيكم قل فرحكم به، وقوله: {تأسوا}، مضارع أسى بكسر السين يأسى بفتحها أسى بفتحتين على القياس، بمعنى حزن ومنه قوله تعالى: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين} [المائدة: 68] وقوله: {من مصيبة} مجرور في محل رفع لأنه فاعل أصاب جر بمن المزيدة لتوكيد النفي، وما نافية.قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط}.قد قدمنا الكلام عليه في سورة الشورى في الكلام على قوله: {الله الذي أَنزَلَ الكتاب بالحق والميزان} [الشورى: 17]، وقدمنا هناك كلام أهل العلم في معناه.قوله تعالى: {وَأَنزْلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}.بينالله جل وعلا في هذه الآية الكريمة والتي قبلها، أن إقامة دين الإسلام تنبني على أمرين: أحدهما هو ما ذكره بقوله: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان} لأن في ذلك إقامة البراهين علىلحق وبين الحجة وإيضاح الامر والنهي والثواب والعقاب، فإذا أصر الكفار على الكفر وتكذيب الرسل مع ذلك البيان والإيضاح، فإن الله تبارك وتعالى أنزل الحديد أي خلقه لبني آدم ليردع به المؤمنون الكافرين المعاندين، وهو قتلهم إياهم بالسيوف والرماح والسهام، وعلىهذا فقوله هنا: {وَأَنزْلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيد} توضحه آيات كثيرة، كقوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 14]، وقوله تعالى: {فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الانفال: 12]، والآيات في مثل ذلك كثيرة معلومة، وقوله: {وَمَنَافِعَ لِلنَّاسِ}، لا يخفى ما في الحديد من المنافع للناس، وقد أشار الله إلى ذلك في قوله: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ} [الرعد: 17] لأن مما يوقد عليه في النار ابتغاء المتاع الحديد.قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}.قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بَلْ مَتَّعْتُ هؤلاء} [الزخرف: 28- 29] الآية.{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)}.قد قدمنا أن التحقيق أن هذه الآية الكريمة من سورة الحديد في المؤمنين من هذه الأمة، وأن سياقها واضح في ذلك، وأن من زعم من أهل العلم انها في أهل الكتاب فقد غلط، وأن ما وعد الله به المؤمنين من هذه الأمة أعظم مما وعد به مؤمني أهل الكتاب وإتيانهم أجرهم مرتين كما قال تعالى فيهم: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قالوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} [القصص: 52- 54] الآية.وكون ما وعد به المؤمنين من هذه الأمة أعظم من أن إيتاء أهل الكتاب أاجرهم مرتنين أعطى المؤمنين من هذه الأمة مثله كما بينه بقوله: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ}، وزادهم بقوله: {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ}.قوله تعالى: {وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ والله ذُو الفضل العظيم}.ما تضمنته هذه الآيةالكريمة من أن الفضل بيد الله وحده وأنه يؤتيه من يشاء جاء موضحًا في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107].وقد قدمنالآيات الموضحة له في أول سورة فاطر في الكلام على قوله تعالى: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} [فاطر: 2]. اهـ.
|